يبدو أن تشكيل حكومة فيدرالية جديدة في بلجيكا لا يزال بعيد المنال. فبعد أربعين يوما من تعيينه من قبل الملك فيليب لتشكيل حكومة جديدة، يكافح زعيم الحزب القومي الفلاماني (إن- في أ)، بارت دي ويفر، الذي تصدر الانتخابات البرلمانية يوم 9 يونيو، من أجل الحصول على أغلبية، مما يهدد بضياع زخم ثمين.
ومن المؤكد أن هذا البلد، الذي يتميز بنظام سياسي معقد، معتاد على المفاوضات السياسية الماراثونية التي أوجدت نوعا من الحس البلجيكي لإيجاد التوافق. فقد استغرق تشكيل الحكومة الفيدرالية المنتهية ولايتها 653 يوما. ولكن هذه المرة، يبدو أن السيناريو قد كتب بشكل مختلف، على الأقل هذا ما يعتقده الفائزون في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
وأعطت هذه الانتخابات فوزا واضحا لأحزاب اليمين والوسط، الأمر الذي من المرجح – نظريا – أن يسهل تشكيل حكومة في إطار زمني معقول. وقد حدد دي ويفر بسرعة تحالفا يجمع من الجانب الفلاماني، كل من الحزب القومي الفلاماني (يمين) والديمقراطيين المسيحيين والحزب الاشتراكي “فورويت”، ومن الجانب الفرنكوفونيي، كلا من الحركة الإصلاحية (يمين) و”أونغاجي” (وسط).
ونظريا، توفر هذه الأغلبية المسماة بأغلبية “أريزونا” قاعدة صلبة. وتمتلك الأحزاب الخمسة ما مجموعه 81 مقعدا من أصل 150 مقعدا في مجلس النواب، المجلس الأدنى في البرلمان الفيدرالي.
من جهة أخرى، تواجه السلطة التنفيذية قيد التشكيل معضلتين تلوحان في الأفق. أولا، يتعين على بلجيكا تقديم خطة ميزانيتها إلى المفوضية الأوروبية بحلول 20 شتنبر، وذلك بعد أن فتحت المفوضية في يونيو الماضي إجراء ضد البلاد بسبب العجز المفرط، حيث يظهر أن بلجيكا سجلت انحرافا بنسبة 4.4 بالمائة خلال عامي 2023 و2024، في حين ينص اتفاق الاتحاد الأوروبي على أن تظل الدول الأعضاء تحت عتبة عجز 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويتعين على بلجيكا تنفيذ جهد مالي بقيمة 27 مليار يورو على مدى خمس سنوات.
فالمعادلة بسيطة، إذا لم يكن هناك حكومة فيدرالية قائمة قبل هذا التاريخ، فإن البلاد، في حال عدم تحسين وضعها المالي، قد تتعرض لعقوبات مالية وتعليق التمويل الأوروبي.
ثم تأتي الانتخابات المحلية التي تقترب بسرعة. فالأحزاب التي تفاوض من أجل تشكيل الحكومة الفيدرالية الجديدة ترغب في الاستفادة من الزخم الذي أحدثته نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة من أجل تعزيز مواقعها في الانتخابات المحلية المقررة يوم 13 أكتوبر المقبل.
ويعتقد بعض المراقبين أن تشكيل الحكومة الفيدرالية قبل هذه الانتخابات سيكون “مفيدا”. فالأحزاب التي ستتمكن من تشكيل حكومة قبل هذا التاريخ قد ت كافأ من قبل الناخبين من أجل سرعتها وفعاليتها، خاصة في اقتراع يمس مباشرة حياة الناخبين اليومية.
ولم يستسلم المكلف بتشكيل الحكومة، بارت دي ويفر، العازم على اغتنام فرصة انتظرها لسنوات. فقد استقبله العاهل البلجيكي أمس الاثنين وقدم له تقريرا عن تقدم محادثاته مع الأحزاب السياسية الأخرى، فيما طلب منه الملك الاستمرار في مهمته. ومن المقرر أن يستقبل الملك دي ويفر مرة أخرى الخميس المقبل.
وفي خطوة غير اعتيادية، أمام المكلف بتشكيل الحكومة ثلاثة أيام فقط لإقناع شركائه المحتملين من تحالف “أريزونا” بمذكرة عمله، التي من المفترض أن تشكل قاعدة المفاوضات للوصول إلى اتفاق حكومي. ويرى المعلقون أن هذا الجدول الزمني الضيق يشكل ضغطا من القصر على كل من المكلف وحلفائه. الوقت ينفد، وكل حزب يجب أن يحدد موقفه بشكل واضح ونهائي.
وانسحب خمسة أحزاب مرشحة لتشكيل الأغلبية الفيدرالية الجديدة في منتصف ليلة الأحد-الاثنين دون التوصل إلى اتفاق حول مذكرة العمل المقدمة من المكلف.
وط لب من المفاوضين من الحزب القومي الفلاماني والديمقراطيين المسيحيين و”فورويت” والحركة الإصلاحية و”أونغاجي” الموافقة على النسخة الثالثة من المذكرة التي تحتوي على سلسلة من الإصلاحات الرئيسية في مجالات الضرائب وسوق العمل والمعاشات. وهي مواضيع غالبا ما أثارت خلافات شديدة داخل الساحة السياسية البلجيكية.
ومع غياب التصريحات من المسؤولين البلجيكيين المشاركين في المفاوضات، أصبحت التسريبات هي ما يغذي تعليقات الصحافة المحلية. ووفقا لأحدث المعلومات، يبدو أن حزب “فورويت” الاشتراكي هو الذي أبدى أشد المعارضات على محتوى مذكرة المكلف.
ومع ذلك، سمحت اللقاءات الثنائية بين دي ويفر ورئيس حزب الاشتراكيين الفلامانيين، كونر روسو، بتخفيف مخاوف حزب “فورويت”، الذي ي عد الأكثر يسارية في التحالف المحتمل. لكن التنازلات المقدمة للاشتراكيين الفلامانيين لم ترق لليبراليين الفرنكوفونيين.
وبعيدا عن مواقف الليبراليين الفرنكوفونيين والاشتراكيين الفلامانيين، الذين قد يعوقون تشكيل أغلبية “أريزونا”، اعتبر عدة أحزاب الأسبوع الماضي أن المقترحات الاقتصادية للمكلف “غير متوازنة” بدرجة كبيرة، مما دفعه إلى إعادة صياغة مذكرته عدة مرات.
ويبدو أن النقاش يركز على الضرائب، ولا سيما إمكانية فرض ضريبة على الأرباح المحققة من الأصول المالية، ومستقبل نظم المعاشات والتقاعد المبكر، وخفض نفقات الرعاية الصحية، وسياسة إعادة إدماج المرضى طويل الأمد، ومسار تقليص العجز في المالية العامة.
وأخيرا، تظل المسألة المؤسساتية هي القضية الشائكة التي لا يرغب أحد في الحديث عنها في هذه المرحلة لتجنب تدمير المفاوضات. ومع ذلك، فإن إصلاح الدولة هو جزء لا يتجزأ من هوية حزب بارت دي ويفر القومي.
فإذا كان على الحزب القومي الفلاماني التخلي عن هذا الإصلاح لتولي رئاسة الحكومة الفيدرالية المقبلة، وبما أن هذا الإصلاح يتطلب أغلبية الثلثين في البرلمان، فلا ينبغي عليه أن يتخلى عن طموحاته في نقل الصلاحيات من الدولة الفيدرالية إلى الكيانات الفيدرالية. وهنا أيضا، لا تتفق مواقف أحزاب “أريزونا”. وفي هذه الأثناء، أمام المكلف ثلاثة أيام ليعلن للملك إطلاق المرحلة النهائية من المفاوضات، أو لا!.
و م ع