تواصل تطبيقات الذكاء الاصطناعي اليوم الكشف عن قدرات مهمة في توليد النصوص والأفكار، وتقديم حلول لمشكلات عملية في مجالات دقيقة من قبيل الطب والرياضيات والترجمة والهندسة، بشكل يسائل أدوار الإنسان في المستقبل أمام زحف الآلة. في هذا الحوار، يجيب الناقد الأدبي، أسامة الصغير، عن أربعة أسئلة لوكالة المغرب العربي للأنباء، حول قدرة هذه التطبيقات على توليد القصائد العربية العمودية كما هي متعارف عليها من حيث المبنى، وكذا مدى قدرة الآلة على التعبير عن المشاعر الإنسانية، والحدود التي تعترضها على المستوى الجمالي.
1. أبرز الذكاء الاصطناعي قدرات خارقة في مواكبة مجالات علمية دقيقة مثل الطب والرياضيات، هل تعتقد أن هذا ما هو عليه الأمر حين يتعلق بمحاكاة الشعر العمودي العربي بما يتطلبه من خضوع لنظام الشطرين والقافية، أم أنه يعجز عن ذلك؟
إن عملية الإنتاج والتلقي الأدبي والثقافي لا تتم إلا عبر ومن خلال وسيط، أي الحامل الموضوعي للخطاب، ويحدث أن يؤثر الوسيط في العملية الأدبية من حيث الإنتاج والتلقي، فاليوم أكثر من أي وقت مضى نرى ارتباطا بين العلم والأشكال الفنية والأدبية. هذا التحدي المضطرد يتجاوز ويمتحن منجزات نظرية الأدب وتاريخ الأدب كمبحثين أساسين في الدراسات الأدبية. من هنا صار الإبداع الأدبي يتضمن عناصر ومكونات تعتبر مستهجنة من طرف المؤسسة الأدبية، منها مثلا الاستناد على الصناعات التكنولوجية كما هو حال الأدب الرقمي الذي يندرج ضمنه شعر الذكاء الاصطناعي.
وعلى اعتبار أن الذكاء الاصطناعي يسعى إلى مراكمة خبرة علمية بكيفية عمل الدماغ البشري، فإنه بلا شك يستطيع محاكاة القصيدة العربية بمختلف مكوناتها الشكلية الفنية، لكن ينبغي التنبيه إلى أن نظرية المحاكاة قد فقدت وهجها عندما ظهرت الوسائط الفنية الجديدة مثل الفوتوغرافيا، الفيديو والسيبرانيات، إذ في الأدب والفن عموما هناك دائما ذاتية / رؤيا / حساسية تتجاوز مجرد رهان المحاكاة، وهنا مكمن العجز لدى الذكاء الاصطناعي حتى وإن استطاع محاكاة الشكل الشعري العمودي.
2. تشكل القصيدة العمودية جنسا أدبيا قادرا على التعبير عن ما يختلج النفس الإنسان من مشاعر وعواطف. هل تعتقد أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي قادرة على إبداع قصائد عمودية تحقق هذا الغرض أم أن الآلة تبقى جافة من حيث القدرة على التعبير عن المشاعر؟
نجد أن الجذر المؤسس للإبداع الإنساني كان وما يزال هو الوعي التراجيدي بالمصير، ونستطيع القول إن دافع الإبداع والابتكار وسمو العقل والمشاعر نابع من إحساس الإنسان بورطة مصيره المنقوص، بالتالي فهو يقاوم عبر الاندفاع والرغبة للإفلات من الحدود والنهاية التي تحصر الخيال. فهل يملك الذكاء الاصطناعي هذا الوعي الشقي؟ بالطبع لا.
ثم إن الشعر يتقاطع مع باقي الفنون في الخاصية الأساسية التي تميز العمل الفني عن غيره، أي خاصية خبرة الانفعال الجمالي. وهذه الخبرة الجمالية لا تتحقق إلا من خلال ” الشكل الفني الدال ” كما يقول المنظر الجمالي، بيل كلايف. لهذا يستطيع الذكاء الاصطناعي ابتكار شكل شعري باحترام المعايير التقنية الفنية، لكن هذا الشكل عاجز تماما عن اجتراح تجربة الوجد الاستطيقي سواء لديه أو لدى المتلقي. لذلك، فإن الشكل الدال ينقل إلينا انفعالا أحسه المبدع، بينما الجمال الطبيعي لا يفعل هذا الأمر، بحيث تختلف خبرة تلقينا للعمل الإبداعي عن خبرة تلقينا للجمال الطبيعي/ المادي، وهذا الصنف الأخير من الجمال هو فقط ما قد نجنيه من الشعر العمودي وغيره من الإبداعات الناجمة عن الذكاء الاصطناعي.
3. هل هناك، في حدود علمك، مشاريع نجحت في توظيف الذكاء الاصطناعي في توليد قصائد عمودية، أم أن هذا النوع من الشعر ببحوره المتنوعة يظل عصيا على المحاكاة؟
حتى وإن وجدت قصائد عمودية من إنتاج الذكاء الاصطناعي اليوم أو غدا، فإن الأدب والشعر منه، لا يتحقق ولا يكتسب كينونة بعملية الإنتاج وحدها، بل بعملية التلقي أساسا، فتاريخ الأدب هو تاريخ تلقيه، أي إن الأدب هو فعالية تواصلية، علما أن المتلقي الأدبي يكون واعيا بأنه يتلقى عملا تخييليا خلال عملية التواصل مع المنتج الأدبي. والحال هذه، كيف يمكن الحديث في الذكاء الاصطناعي المبرمج عن إنتاجية أدبية تواصلية طرفاها المبدع والمتلقي!
الملاحظ أن محاولات تعريف الفن ومجالاته، ظلت موضوع تنازع بين النظرية المثالية التي تربط الفن ب: الخيال، الجمال الخالص، الانفعال الحسي، التأمل. والنظرية المادية التي تربط الفن ب: الصناعة والمهارة المهنية والحرفية، جاعلة إياه جزءا من الواقع الاقتصادي والتبادلي النفعي، وهو برأيي ما يجد صداه لدى دعاة الإبداع القائم على أساس الذكاء الاصطناعي. للإشارة، بدأ الحديث منذ سنة 1910 تحديدا عن ” الجماليات الصناعية ” في محاولة للجمع بين قيم الإبداع وقيم الإنتاج، أي بين ما هو جميل وما بين ما هو نافع. ومن تم تبلور الاهتمام بالطرائق المادية للصنع والعرض والإرسال والاستقبال. بهذه الإبدالات تم تجاوز معايير وتحديدات ” الفنون الجميلة ” أو الكلاسيكية. بشكل أدق فقد ارتبط الفن بدورة السوق وهو ما بلغ ذروته في الإبداع الناجم عن الذكاء الاصطناعي.
4. هل تتوقعون أن يتمكن من الذكاء الاصطناعي في المستقبل رفع تحدي إبداع قصائد عمودية تخضع لشروطه من حيث المبنى والمعنى؟
بديهي أن القضايا المصيرية والأسئلة الوجودية الكبرى للإنسان تبقى واحدة: الموت، الاشباع، البقاء، الخوف، الحب، وغيرها. وهي تشكل البواعث والمحفزات الانفعالية الملهمة، كما أنها تشكل الموضوعات الخاضعة للخبرة الجمالية والفنية على طول تاريخ الوعي والإبداعي الإنساني، لذلك فإنها تعتبر جوهر الانشغال الانساني في التاريخ، فإذا استطاعت تقنيات العلم الإنساني بلوغ هذه الخبرات والمدارك، حينها قد يستطيع الذكاء الاصطناعي الجمع بين المبنى والمعنى في إنتاج القصيدة العمودية، وهو ما سيعني حينها إعلان موت الإنسان بعد إعلان موت المؤلف، أي نهاية الانسان وحلول الآلة كفاعل أول في التاريخ الإنساني، كما لو أننا نتحدث افتراضا واستباقا عن طور تكويني آخر في الإنسان على غرار النياندرتال والهوموسابينس.. وإذا رجعنا إلى فكرة سيغموند فرويد حول أن دافع الانسان إلى الفن هو التسامي، مما أنتج البعد الفني والروحي في الحضارات، فكيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتسامى كي يحول الطاقة إلى بعدها الروحي والجمالي؟
وفي اعتقادي سيظل الذكاء الاصطناعي مبتور الإبداع، لأن إنتاج نص ما لا يتحقق إلا من خلال تفاعل الذات مع المحيط عبر ملكة الوعي والإدراك سواء الذهني أو الحدسي، بينما أن الذكاء الاصطناعي يحتاج دائما إلا وعي بشري موجه هو من يقترح عليه الكتابة حول موضوع ما ومن خلال جنس ما من الكتابة الأدبية، لأن الذكاء الاصطناعي ليس مكتمل الوعي والإرادة رغم قدرته المحتملة على الإنتاج والمحاكاة الخوارزمية. إن التكنولوجيا تبقى سمة الفترة المعاصرة كتعبير أعلى عن التقدم التقني الذي أحرزه الإنسان المعاصر. وهو ما أدى إلى ظهور فرع لجماليات جديدة من خلال استطيقا الآلة، بذلك فنحن أمام إشكالات وتحديات البلاغة الرقمية.
و م ع