في ظل تنامي خطر الاتجار بالبشر، بفعل العولمة والتقدم التكنولوجي، جعل المغرب من مكافحة هذه الآفة العابرة للحدود خيارا استراتيجيا لتجفيف منابعها، من خلال زيادة الوعي بحالات الاتجار بالأشخاص، والتكفل بضحايا هذه الجريمة، وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها.
ولتحقيق أهداف هذا الخيار الاستراتيجي، بادرت المملكة على الخصوص إلى إحداث لجنة وطنية لتنسيق جهود جميع مكوناتها، من قطاعات حكومية ومؤسسات عمومية وجمعيات المجتمع المدني من أجل تقوية الإطار القانوني والمؤسساتي، وفق ما أورده تقرير وطني سنوي لهذه اللجنة، تم تقديمه أمس الثلاثاء بالرباط. ونظرا لخطورة جريمة الاتجار في البشر ودرجة توسعها وانتشارها على المستويين الدولي والوطني، وكذا طبيعتها المعقدة من حيث التنظيم والتنفيذ وغياب الوعي بالصور التي يمكن أن تتخذها، وضعت اللجنة الوطنية لتنسيق إجراءات مكافحة الاتجار في البشر والوقاية منه مخطط عمل ينبني على معايير وأهداف نوعية ودقيقة.
خطة العمل ترتكز على القيام بتشخيص وتقييم سليم يعكس حجم الظاهرة ومدى قدرة الأدوات القانونية والمؤسساتية على التصدي للجريمة من خلال (استبيانات إحصائية، مقابلات ميدانية واستمارات…)، إضافة إلى وضع استراتيجية وطنية يسهم في إعدادها كافة المتدخلين وفق مقاربة شاملة تلامس جوانب الوقاية والمكافحة (الإطار القانوني، التكوين والتكوين المستمر، الدعم المالي ومساندة الضحايا).
وعلى غرار الدول الرائدة في مجال مكافحة هذه الجريمة، سيتم إحداث آلية وطنية لإحالة ضحايا الاتجار في البشر وتعزيزها بالموارد البشرية من مساعدات ومساعدين اجتماعيين، من أجل التعرف على الضحايا المفترضين للجريمة وتوجيههم توجيها سليما إلى السلطات المختصة لاستفادتهم من الخدمات المقدمة .
كما تتمثل الجهود المبذولة في بلورة اقتراحات لتعزيز المنظومة القانونية الوطنية، تستجيب للمعايير الدولية والممارسات الجيدة وتسهم في توفير آليات قوية للتصدي للظاهرة.
وفي ما يخص التكفل بالضحايا، يتم إجراء تشخيص دقيق يمكن من التعرف على هويتهم (لاجئون ، عديمو الجنسية، نساء، أطفال، حالات إنسانية مرضية)، واقتراح آليات وقائية وحمائية لهم (الاستقبال، الدعم، التوجيه والمواكبة)، مع التأكيد على عدم متابعة ضحايا الاتجار في البشر قانونا وتمكينهم من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والصحية، وإحداث دور إيواء خاصة بهم ومدهم بالمساعدة القانونية والبحث عن سبل لإعادة إدماجهم وتعويضهم عن الأضرار اللاحقة بهم جراء الجريمة.
ووعيا منها بأهمية التواصل والتحسيس بتمثلات جريمة الاتجار في البشر ودعم دور الإعلام الوطني في رفع منسوب الوعي لدى عموم المواطنين وكذا المهنيين بخطورتها، عملت اللجنة الوطنية على إعداد مجموعة من أدوات التواصل تجسدت في مطويتين موجهتين لعموم المواطنين والمهنيين من مختلف المتدخلين، أولهما للتعريف بجريمة الاتجار في البشر ومكوناتها وفق القانون 14-27 لمكافحة الاتجار في البشر والأركان المكونة لها من المنظور الدولي والوطني، مبرزة أوجه الاختلاف بين جريمتي الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين بحكم تقارب الأركان المكونة لهما. أما ثانيهما فتطرقت إلى تعريف اللجنة الوطنية لتنسيق إجراءات مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه كآلية وطنية مؤسساتية.
كما أعدت اللجنة الوطنية وصلتين تحسيسيتين تم عرضهما عبر القنوات الرسمية الوطنية ومواقع التواصل الاجتماعي.
وعملت المملكة على إعادة النظر في الترسانة التشريعية المغربية، بما يسمح بإدخال مقتضيات قانونية كفيلة بالتصدي ومحاربة هذا النوع من الجرائم. وفي هذا الإطار فقد تمت ملاءمة القانون الجنائي مع ما تمت المصادقة عليه من التزامات دولية في هذا المجال، بإصدار القانون رقم 14-27 بالجريمة الرسمية بتاريخ 19 شتنبر 2016 المتعلق بمكافحة الاتجار في البشر، والذي نص على عقوبات مشددة لمقترفي هذا النوع من الجرائم، بالإضافة إلى مقتضيات قانونية لحماية الشهود والضحايا.
ولكون الانخراط في مسلسل الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية الثنائية ومتعددة الأطراف يعد خطوة هامة تساهم في الحد من الظواهر الإجرامية من خلال تعزيز التعاون الدولي في مختلف المجالات سواء على المستوى المدني أو الجنائي، أبرمت وزارة العدل العديد من اتفاقيات التعاون القضائي في المجال الجنائي، بلغت ما يناهز 79 اتفاقية مع مختلف دول العالم سواء الأوروبية أو الأمريكية أو الإفريقية والآسيوية، إضافة إلى الدول العربية.
وشملت هذه الاتفاقيات مختلف الآليات الوسائل الدولية المتعارف عليها في مجال مكافحة الجريمة والتصدي لها سواء عبر آلية تسليم المجرمين أو آلية الإنابة القضائية أوالشكاية الرسمية، بالإضافة إلى تعزيز هذا التعاون بآلية نقل الأشخاص المحكوم عليهم لقضاء ما تبقى لهم من العقوبات الحبسية أو السجنية في بلدانهم.
وقد تم إدخال مقتضيات جديدة في مشروع قانون المسطرة الجنائية، من خلال آليات ووسائل جديدة تم تضمينها لأول مرة في هذا المشروع، لعل من أبرزها ما يرتبط بإحداث فرق البحث والتحقيق المشتركة في إطار تعزيز العمل المشترك مع السلطات الأجنبية لمحاربة مختلف أنواع الجريمة والتصدي لها بمختلف الطرق والسبل الممكنة وأيضا اعتماد تقنية الاختراق كطريقة جديدة للبحث في الجرائم وضبط مرتكبيها وتقنية التواصل عبر استعمال الوسائط المتعددة.
وبخصوص التعاون التقني الدولي، انفتحت اللجنة الوطنية لتنسيق إجراءات مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه على المنظمات الدولية لقناعاتها بأهمية التعاون التقني الدولي وتبادل الخبرات كأنجع السبل للتمكن من مكافحة الجريمة بصفة عامة والاتجار بالبشر بالخصوص.
وفي هذا الإطار عملت اللجنة على الاستجابة لعدة مقترحات برامج التعاون مع عدة منظمات دولية، من بينها مجلس أوروبا ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، حيث وافقت اللجنة على مقترح الشراكة الذي توصلت به من هذا المكتب الأممي بالرباط، والذي يضم عدة محاور أساسية تتجلى في مواكبة اللجنة في تنزيل وتنفيذ اختصاصاتها، لاسيما تلك المتعلقة ببرامج التكوين وبناء وتقوية قدرات ممارسي العدالة الجنائية وتعزيز مهاراتهم سواء على مستوى التعرف وحماية الضحايا والتحقيق في قضايا الاتجار في البشر، إضافة المنظمة الدولية للهجرة التي تقدمت ببرنامج تعاون للجنة الوطنية يرتكز على فهم خصوصية المهاجر وحاجياته خاصة ضحية الاتجار في البشر.
ولإنجاح هذا الخيار الاستراتيجي، يواصل المغرب جهوده المبذولة من طرف كافة المتدخلين في التصدي للاتجار في البشر، مع الوقوف على بعض المداخل التي مازالت تحتاج إلى المزيد من العمل لمحو مكامن قصورها.
و م ع
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.